ولا ســفـاح‮ .. ‬ولا يحزنون‮!‬‬

ولا ســفـاح‮ .. ‬ولا يحزنون‮!‬‬

ولا ســفـاح‮ .. ‬ولا يحزنون‮!‬‬

ولا ســفـاح‮ .. ‬ولا يحزنون‮!‬‬
شخص مجهول يعتدي على الفتيات‮ والسيدات

محمود صلاح

علموني في الصحافة ألا تعليق علي أحكام القضاء‮. ‬وقد اجتهدت معظم سنوات عملي الصحفي‮.. ‬أن أطبق هذا المبدأ‮.. ‬ولكن‮!‬
كنت أفعل ذلك احتراما للقضاء‮. ‬وتقديرا لمهنة ورسالة القاضي،‮ ‬وقدسية أحكامه،‮ ‬التي يفترض أنها كلمة العدالة‮.. ‬ولكن‮!‬
لكني دائما كنت مؤمنا بأن أصعب وظيفة في هذه الدنيا‮. ‬هي وظيفة القاضي،‮ ‬فما أصعب أن تحدد كلمتك مصير انسان،‮ ‬تعطيه كلمة العدالة حقه المسلوب،‮ ‬تبريء ساحته من تهمة أو توقع عقابه علي خطأ أو خطيئة‮!‬
والقاضي لا يعيش في برج عاجي،‮ ‬حوائطه مصنوعة من صفحات قانون العقوبات‮. ‬القاضي لا يحكم بنصوص قوانين صماء‮. ‬كتبها آخرون منذ سنوات‮ ‬وسنوات‮.‬
القاضي‮.. ‬بشر‮!‬
يعيش وسط الناس‮. ‬هو أصلا من الناس‮. ‬يتعامل معهم،‮ ‬ويلمس همومهم ويحس بمشاعرهم،‮ ‬ويتأثر مثلهم‮. ‬القاضي ليس من كوكب تاني‮!‬
ولهذا ينبغي أن تكون أحكام القاضي،‮ ‬مستوعبة لأحوال الناس،‮ ‬الذين ستطبق عليهم هذه الأحكام‮. ‬ولهذا كان الفارق بين‮ »‬نص القانون‮« ‬و»روح القانون‮« ‬وغير صحيح أن‮ »‬العدالة عمياء‮« ‬لا تري‮. ‬العدالة يجب أن يكون لها ألف عقل‮.. ‬وأيضا ألف قلب‮!‬
‮>>>‬
قبل عامين‮..‬
طلعت علينا‮ ‬الصحف والمجلات بأخبار شخص مجهول يعتدي على الفتيات‮ والسيدات في بعض شوارع حي المعادي،‮ ‬بواسطة آلة حادة،‮ ‬علي الأغلب هي‮ »‬موس حلاقة‮«. ‬كان هذا الجاني المجهول يغافل الفتاة أو السيدة ويطعنها من الخلف ثم‮ ‬يسارع بالفرار‮. ‬ويختفي كأنه شبح‮!‬
وكعادة الصحافة المصرية في المبالغة والتهويل،‮ ‬وأسلوب الاثارة الذي أصبحت تلجأ اليه الصحف،‮ ‬قومية كانت أو حزبية أو مستقلة‮. ‬التقطت الصحف ومعها الفضائيات،‮ ‬هذا الحادث،‮ ‬الذي تكرر أكثر من مرة في المعادي‮. ‬ونفخت فيه وتحدثت بإسهاب وإثارة‮. ‬عن الجاني المجهول الذي أطلقت عليه الصحافة لقب‮ »‬سفاح المعادي‮«!‬
مع أن السفاح أصلا تعبير يطلق علي القاتل المتسلسل،‮ ‬الذي يرتكب أكثر من جريمة قتل،‮ ‬لكن الصحافة كانت قد حكمت علي المتهم المجهول بأنه سفاح‮.. ‬وأحكام الصحافة‮ ‬غالبا لا تعرف الاستئناف أو النقض‮!‬
الصحافة الآن‮ – ‬لمن لا يعلم‮ – ‬نصبت من نفسها قاضيا،‮ ‬وباتت تصدر الأحكام بكل صرامة وقسوة،‮ ‬حتي قبل أن تقول المحاكم‮ ‬أحكامها‮!‬
سفاح‮.. ‬سفاح‮!‬
هكذا أطلقت الصحافة اللقب الخطير علي المتهم المجهول،‮ ‬ولا أنكر أننا لفترة فعلنا مثلما فعل الآخرون‮.. ‬وقلنا معهم‮.. »‬سفاح‮«!‬
وأثارت حكاية‮ »‬سفاح المعادي‮«.. ‬ذعرا ورعبا في بيوت الناس‮.. ‬وضيق أولياء الأمور الحصار علي بناتهم،‮ ‬ومنعوهن من الخروج الي الشوارع،‮ ‬وأحيانا من الذهاب الي المدرسة‮.. ‬خوفا عليهن من‮ »‬سفاح المعادي الهارب‮«!‬
وبعد فترة‮ – ‬وكالعادة‮ – ‬نسي الناس أخبار سفاح المعادي‮. ‬بالتأكيد لأنه ظهرت قصص مثيرة جديدة،‮ ‬وحوادث أخري أكثر إثارة‮!‬
الصحافة‮ – ‬وبالأدق الاعلام‮ – ‬حولت الناس الي وحوش متعطشة كل صباح لإرواء نفوسهم بأخبار القتلة والسفاحين واللصوص والمجرمين‮!‬
القاريء يدفع في الجريدة كل صباح جنيها‮. ‬وكأنه يقطع‮ »‬تذكرة‮« ‬دخول الي مسارح الجرائم‮. ‬وأخبار الفضائح‮. ‬ومصائب الآخرين‮!‬
‮>>>‬
وراحت الأيام وجاءت أيام‮!‬
وطلعت علينا الصحف ذات يوم،‮ ‬تبشرنا بخبر القبض علي‮ »‬سفاح المعادي‮«!‬
ولم تتورع الصحافة عن استغلال الفرصة،‮ ‬وبدأت تنشر صفحات وصفحات عن اعترافات سفاح المعادي،‮ ‬الذي قالوا انه اعترف بتفاصيل جرائمه ضد البنات والسيدات‮!‬
وحققت الشرطة مع‮ »‬السفاح‮«. ‬ثم أحالته الي النيابة‮ . ‬وحققت النيابة مع‮ »‬السفاح‮« ‬ثم أحالته الي المحاكمة‮.‬
وذهبت الي المحكمة لأتابع‮ »‬محاكمة السفاح‮«. ‬نظرت الي قفص الاتهام‮. ‬فوجدت‮ »‬السفاح‮« ‬مجرد شاب بائس في مقتبل عمره‮.‬
نظرت الي قفص الاتهام فلم أجد متهمين آخرين‮. ‬كان لابد أن تتم محاكمتهم في نفس القضية؟
أين المتهم الأول،‮ ‬وهو المحرض الحقيقي؟
أين هذا المتهم الذي اسمه‮.. ‬الفقر؟‮!‬
وأين المتهم الثاني‮.. ‬الذي اسمه‮.. ‬الحرمان؟‮!‬
واضح أن من أسموه وقبضوا عليه،‮ ‬وحققوا معه تحت اسم‮ »‬سفاح المعادي‮«. ‬مجرد شاب بائس من بيئة محرومة تعيش في خط الفقر،‮ ‬فوقه أو تحته قليلا‮.‬
والفقر‮.. ‬يعني الجوع‮!‬
والجوع ليس هو فقط جوع‮!‬،‮ ‬الأكل‮!‬
الجوع أشكال وألوان‮!‬
هناك جوع المعدة‮.. ‬وهناك الجوع إلي الاحساس بأن الفقير انسان‮. ‬يمكن أن يعيش ويحس ويستمتع‮. ‬كما يفعل الأغنياء‮. ‬وهم مثله‮.. ‬لا يزيدون عنه رجلا ولا يدا‮!‬
هناك جوع الشاب الفقير‮.. ‬لأن يحب‮.. ‬أليس له قلب؟
هناك جوع الشاب العادي‮.. ‬لأن يتزوج مثلا ويعيش حياة عادية مثل الناس‮!‬
وهناك الجوع‮.. ‬الي التقدير‮!‬
جوع الفقير المحروم‮. ‬لأن يشعر أنه بني آدم في هذه الدنيا،‮ ‬وليس نكرة‮. ‬وكأنه ميت يمشي علي قدمين‮. ‬بني آدم بالاسم فقط‮!‬
‮> > >‬
نعم‮.. ‬أنا شعرت أن الحكم بسجن من أسموه‮ »‬سفاح المعادي‮« ٥٤ ‬سنة‮. ‬حكما شديدا قاسيا‮. ‬حكم بلا قلب‮. ‬ولا رحمة‮. ‬
‮ ‬حكم قادم من كوكب ثان‮ ‬غير الكوكب الذي نعيش عليه‮.‬
قد‮ ‬يكون حكم القاضي‮ ‬في قضية سفاح المعادي صحيحا بالاستناد الي نصوص القانون‮.‬
لكن ‮٥٤ ‬سنة سجنا‮.. ‬كثير بروح القانون‮!‬
وأنا أعرف‮.. ‬ولا أعرف‮ !‬
لا أعرف لماذا لم يحاكموا معه الفقر والحرمان‮.‬
وأعرف أن تعليقي علي حكم قضائي يعرضني للحبس‮.‬
أعرف‮.. ‬لكن‮!‬
هو أنا أحسن من مين‮.. ‬عشان ما ادخلش السجن؟‮!‬

اخبار ومواضيع ذات صلة:

1 comment

أضف تعليقاً