هل تعرفون مشاعر جحش صغير وجائع وجد نفسه فجأة في حقل برسيم

مشاعر جحش صغير وجائع في حقل برسيم

مشاعر جحش صغير وجائع في حقل برسيم

هل تعرفون مشاعر جحش صغير وجائع وجد نفسه فجأة في حقل برسيم


تلك كانت مشاعري تجاه الجميلة البوسنية ذات العيون البنفسجية تمارا بولوكوفا!

مصريات
طلال فيصل

هذا ما يؤكده فرويد، نشاطنا الجنسي كامن فينا من لحظة الميلاد وحتى مفارقة الحياة، هذه هي النظرية باختصار وهكذا يقوم السيد فرويد بتفسير الكثير من تصرفات الطفل الذي كنا نظنه لا يدرك ولا يميز شيئا (تأمل مثلا مشاهد الرضاعة من الأم ومداعبة الطفل لجسده أو مص إبهامه) الميولة الجنسية موجودة وتظهر في كل شيء وفي كل حين،ولكن السيد فرويد ذاته يحدثنا بعد ذلك عن شيء يدعي «فترة الكمون» أو «latency period» ، فترة يتوقف فيها الطفل عن التفكير في الجنس وفي الجسد وفي المرأة، حسنا، لأعترف الآن في جلسة المصارحة هذه، أنا لم يكن لدي
«latency period» ، هذه هي الحقيقة ولا داعي لإنكارها، كنت متحمسا طوال الوقت، حتى في فترة الابتدائي التي من المفترض أن يكون المرء منا فيها مهذبا وبريئا ونقيا من شوائب الرغبة، في هذه الفترة كنت طفلا لا يفكر إلا في قلة الأدب والحاجات التي من المفترض ألا يفكر فيها طفل، وهكذا، وهكذا عندما دخلت فصلنا الطفلة ذات العيون البنفسجية، الطفلة التي لم أر في حياتي حتى الآن أجمل منها، «تمارا بولكوفا» وشاء لها حظها العثر أن تجلس جوار الوحش الكاسر المختبئ في ثياب طفل في رابعة ابتدائي والذي هو العبد لله، لم أنتبه للمدرسة التي تطالبنا بالترحيب بزملائنا الجدد من البوسنة والهرسك، لم أهتم بالحجاب الذي على رأسها، لم توقفني ملامحها الملائكية المنكسرة التي توقظ القلب ولو كان من حجر، لم أنتبه لشيء، وبمنتهى الحماقة والاندفاع، مثل جحش صغير جائع ألقوه في حقل برسيم، انحنيت على تمارا بولكوفا، وقبلتها على خدها.

طبعا انقلب الفصل رأسا على عقب، المدرسة السخيفة التي لا تتفهم النوازع البشرية ظلت توبخني وتطلب من أشقياء الفصل السكوت والهدوء، المدرسة أمرتني بالخروج من الفصل، واستدعت ولى أمري، ولو كنت أكبر قليلا لكنت قلت للمدرسة ببساطة:

– ماذا أفعل يا مس، لقد خلقني الله دون «latency period».

طبعا جاء والدى واعتذر للمدرسة وطرقع لي أصداغي بكفين معتبرين يداري بهما بهجته بابنه الذي ورث فحولته وحماسه، وحين عدت وجلست بجوار تمارا كانت مثل آنسة كبيرة لا طفلة في العاشرة من العمر، آنسة تستوعب الطفل الذي بجوارها، الذين قرأوا كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» لعلى عزت بيجوفتش سيفهمون البساطة التي تعاملت بها تمارا مع الأمر بعد ذلك، وسيفهمون شعب البوسنة الذي تمت إبادته بوحشية لا مثيل لها على يد الصرب لا لشيء إلا لأنه شعب مسلم ويتم تشريد الباقي منه على الدول اٍلإسلامية والعربية، فنكتشف شعبا راقيا يدعي شعب البوسنة والهرسك وفيلسوفا مدهشا يدعي على بيجوفتش هو رئيس الدولة، الطفلة تمارا مدت يدها لتصافحني مبتسمة في هدوء، نحن لم نتعرف بعد، تمارا بولكوفا، البوسنة، طلال فيصل، مصر، مصر؟ كم أتمني زيارة الأهرامات والأزهر الشريف، أخي ذهب ليدرس في الأزهر، لكنه لن يستطيع إتمام دراسته بسبب الحرب، بأي لغة تتحدثون في البيت؟ العربية؟ أليس كذلك؟، وتستطيع قراءة القرآن بمفردك؟ لا للأسف، حاولت تعلم اللغة العربية لكنها صعبة وحروفها متشابكة، لكنني أحفظ سورة الفاتحة والناس والفلق، تبدأ تمارا تسمع لي شيئا من سورة الفلق فتأخذ قلبي بحروفها المكسرة ومحاولاتها الجاهدة للحفاظ على الترتيل وعلى قواعد العربية، اعطيها كشكولى لتنقل منه الحصص الفائتة وأذهب للبيت وأنا أحمل في قلبي وردة بيضاء كبيرة، تدعي تمارا بولكوفا.

كم هو قصير عمر الورود البيضاء، بعد شهر واحد انتقلت تمارا لمكان آخر – لم أعلم عنه شيئا – وظلت في بالى ذكري ماثلة كلما قرأت «قل أعوذ برب الفلق» بسهولة ويسر، أبتسم في حنين وأنا أتذكر مجاهدتها لتنطقها، كانت تقفز لذاكرتي كلما سمعت خبرا عن محاكمة سلوبودان ميلوسوفيتش – مجرم الصرب – أو كلما وقع بصري على كتاب عزت بيجوفتش في المكتبة، شيئا فشيئا كانت قراءاتي الدينية تضمحل وتتلاشي، وكانت تمارا تذوي في ذاكرتي كالشعلة الذابلة، ستمر أيام قصيرة وطويلة وستحفر في الروح ندوبا وكهوفا وعلامات غير قابلة للمحو، ستطالني يد التغيير كما تطال كل شيء، وعندما سيصبح السؤال الأهم في حياتي، كيف أتوقف عن شرب الحشيش – مع الاكتفاء بالسجائر الشرعية – سيكون من العبث أن أفكر في تمارا أو في موضوع مثل مسلمي البوسنة والهرسك، مرة واحدة بحثت عليها على الفيسبوك – لعلى أعثر عليها كما عثرت على «مانوليا» من قبل – ولم أجدها ولكني وجدت بدلا منها صورة حسناء أخرى تشعر بحرارة الجو فشعرت أنا بالسعادة، اضفتها بالطبع وأنا أترحم على أيام تمارا وأدعو أن تقتنع الحسناء الفيسبوكية بالقدوم لمصر للتعرف على حلاوة شمسنا وخفة دمنا.

هل تعرف مقهى الحرية في وسط البلد، باب اللوق تحديدا، إنه بار وليس مقهي، ولكن فات الزمن الذي كانت تسمي فيه الأشياء بأسمائها، وبين الصف الرابع الابتدائي والجلوس على مقهى أو بار الحرية مسافة طويلة، مسافة يختلط فيها الشك بالحيرة، الصواب بالخطأ والموهبة بافتعال الموهبة، ستقول لنفسك لا بد أن أفهم الحياة، ستؤكد أنك مجرد متفرج حتى تستوعب الدنيا بصورة أعمق، ستغوص قدماك في الوحل وتتغير ملامحك وتنسي أن تنظر في المرآة، ستقفز مسافة من الحيرة والفضول وخداع النفس والشك والرغبة، ستجد نفسك فجأة – لا تدري كيف – جالسا وسط مجموعة من العاطلين والمنحلين يتناقشون في الأدب ويلعنون التوريث ويشربون البيرة، وفي لحظة ما، ستتوقف عيناك عليها، هي هي ولا شك في ذلك يا صبي، العينان البنفسجيتان والبشرة الشاهقة البياض، كبرتي يا تمارا وصار نهداكي طائرين كبيرين يوشكان على القفز، استدار كل ما كان مستويا يا تمارا، كانت جالسة مع مجموعة من الأجانب الذين نشاهدهم في مقهى الحرية، كالعادة، يشربون البيرة ويضحكون بصوت عال، الملامح ذات الملامح لكن، ما الذي يمكن أن يكون جاء بها الى هنا، منحة دراسية؟ تبادل ثقافي؟ هل زارت الأزهر وهل مازال أخوها يدرس هناك؟ من هذا الشاب الذي يضع يده عليها بأريحية؟، أفكر أن أقوم فأسلم عليها، ربما أستطيع تكوين علاقة معها، أو على الأقل أبدد الانطباع الذي يؤكده أصدقائي عني، أنه ليس لي في البنات، أحاول الوقوف لكن تخونني قدماي، سأظل جالسا ومرهقا وسأؤكد لنفسي وأنا راحل آخر الليل أنها ليست هي، وأن الأوروبيات يتشابهن، شعر أصفر وجسد مكشوف شاهق البياض، وأن جميع الأوروبيات لهن عيون واسعة بنفسجية، أليست البوسنة دولة أوروبية؟

اخبار ومواضيع ذات صلة:

1 comment
  1. عامر منيب 04/11/2009 16:30 -

    اسلوبك في السرد اكتر من رائع … لكن اكيد مش هي

أضف تعليقاً